في زمن تتسارع فيه الابتكارات التقنية، لا يبدو أن الحوسبة الكمومية مجرد خيال علمي بعد الآن. إعلان IBM عن حاسوب كمومي تجاري حقيقي يمثل لحظة فارقة في عالم التكنولوجيا، بل ويُعد أحد أهم المشاريع التي قد تغيّر مستقبل الصناعة والبحث العلمي خلال السنوات القادمة.
الحاسوب الكمومي: ما الفارق عن الكلاسيكي؟
الحواسيب التقليدية التي نستخدمها اليوم تعتمد على “البت” الذي يمثل إما 0 أو 1، بينما يستخدم الحاسوب الكمومي “البت الكمومي” أو “الكيوبِت” الذي يمكن أن يكون 0 و1 في الوقت نفسه، ما يعني قدرة حسابية هائلة على معالجة بيانات معقدة في وقت قصير جدًا. هذا المفهوم الثوري هو أساس ما تعمل عليه IBM في مشروعها الطموح.
ما هو حاسوب IBM الكمومي؟
كشفت IBM عن خارطة طريق طموحة تهدف لإطلاق أول حاسوب كمومي تجاري بحلول عام 2029، تحت اسم “Starling”. الحاسوب الكمومي الجديد سيعتمد على معمارية qLDPC لتصحيح الأخطاء، وهي التقنية التي تمثل نقلة نوعية مقارنة بالتقنيات السابقة مثل surface code.
وبحسب الشركة، فإن “حاسوب IBM الكمومي” سيكون قادرًا على تنفيذ 100 مليون عملية كمومية باستخدام 200 بت منطقي فقط. هذه القدرة تمهد لما يُعرف بـ “الميزة الكمومية” – وهي النقطة التي يصبح فيها أداء الحواسيب الكمومية متفوقًا بشكل واضح على الحواسيب التقليدية في مجالات محددة.
مراحل خارطة الطريق: من Loon إلى Starling
تبدأ الخطة من نظام يُدعى Loon في عام 2025، يليه Kookaburra في 2026، ثم Cockatoo في 2027، وأخيرًا حاسوب IBM الكمومي Starling في 2029. بعد ذلك، تخطط IBM لإطلاق منصة أكبر تدعى Blue Jay بحلول 2033، والتي ستعتمد على 2000 بت منطقي وتنفيذ مليار عملية كمومية.
كل مرحلة في هذه السلسلة تمثل قفزة تقنية بحد ذاتها، حيث يجري دمج الذاكرة المنطقية مع وحدات المعالجة، واستخدام وصلات كمومية متقدمة لربط وحدات متعددة معًا في بيئة معالجة موزعة.
لماذا تعتبر معمارية qLDPC ثورة؟
تعتمد هذه المعمارية على رموز تصحيح أخطاء منخفضة الكثافة، والتي تسمح باستخدام عدد أقل من البتات الفيزيائية لتحقيق بت منطقي موثوق. في السياق العملي، يمكن تنفيذ مليون دورة باستخدام 12 بت منطقي مدعوم بـ 288 بت فيزيائي فقط، أي بكفاءة أعلى بكثير من الطرق السابقة.
الاستخدامات المتوقعة لحاسوب IBM الكمومي
من أبرز النقاط التي جعلت حاسوب IBM الكمومي يتصدّر العناوين، هي التطبيقات العملية التي يمكن أن يغير بها قواعد اللعبة. فهذه ليست مجرد تجربة مختبرية محدودة، بل منصة حوسبة مستقبلية مخصصة لمعالجة مشكلات واقعية، مثل:
تسريع اكتشاف الأدوية: بدلاً من انتظار سنوات لتجربة تركيبات دوائية معقدة، يمكن لهذا الحاسوب محاكاة الجزيئات والتفاعلات الكيميائية بدقة وسرعة تفوق أي نظام حالي.
تصميم مواد جديدة: خصوصًا في مجالات مثل أشباه الموصلات، أو البطاريات الفائقة الأداء، التي تحتاج إلى نمذجة فيزيائية يصعب تحقيقها بالحوسبة التقليدية.
تحسين الأنظمة المالية واللوجستية: من خلال تحليل سيناريوهات متعددة في وقت واحد، يمكن تحسين الجداول الزمنية وخطط النقل ومحافظ الاستثمار في لحظات.
كل هذه الأمثلة ليست توقعات نظرية فقط، بل تتماشى مع رؤية IBM لجعل حاسوب IBM الكمومي محركًا للثورة الصناعية القادمة.
المنافسة العالمية: أين تقف IBM؟
رغم إعلان Google في 2019 عن “الميزة الكمومية” ضمن بيئة مختبرية مغلقة، فإن IBM تسعى إلى تقديم حاسوب كمومي فعّال وقابل للتطبيق العملي الحقيقي. بينما تعتمد Google وMicrosoft على رموز تصحيح الأخطاء التقليدية مثل surface code، فإن IBM تتفوق باستخدام qLDPC، والتي تقلل الحاجة إلى موارد مادية وتسمح ببناء أنظمة أكبر وأكثر مرونة.
والأهم من ذلك، أن خارطة IBM واضحة وعملية وتُبنى على معالجات حقيقية يتم تطويرها عامًا بعد عام، بدءًا من Nighthawk وصولًا إلى Starling.
ماذا يعني هذا لمستقبل التكنولوجيا؟
إذا تحقق ما وعدت به IBM، فإننا أمام تحول جذري في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، المحاكاة الفيزيائية، تحليل البيانات الكبرى، وحتى الأمن السيبراني. في الواقع، العديد من خوارزميات التشفير التي نعتمد عليها اليوم قد تصبح عرضة للاختراق عند انتشار الحوسبة الكمومية، وهو ما يجعل تطوير تقنيات التشفير ما بعد الكمومي (Post-Quantum Cryptography) ضرورة ملحّة.
وهنا يبرز حاسوب IBM الكمومي كأحد العناصر التي ستُعيد تشكيل البيئة الرقمية بالكامل خلال العقد القادم.
دعوة للباحثين العرب والمهتمين بالتقنية
إن تطوير الحواسيب الكمومية ليس حكرًا على المختبرات الغربية. بل هو مجال مفتوح للباحثين، المبرمجين، والمهندسين في جميع أنحاء العالم، خاصة مع توفّر أدوات IBM السحابية التي تسمح بتجربة الأكواد الكمومية وتطويرها عبر الإنترنت. لذا، يمكن للجامعات والمؤسسات العربية الاستفادة من هذه الموارد للدخول في هذا السباق العلمي.
وإذا كنت من العرب المقيمين في أوروبا أو من الشغوفين بالعلوم المتقدمة، فإن حاسوب IBM الكمومي يمنحك فرصة نادرة لتكون جزءًا من الثورة القادمة، سواء كمطور، أو كباحث، أو كمحلل.
خاتمة
لم يعد السؤال: “هل ستصل الحوسبة الكمومية؟” بل أصبح: “متى؟”
ومع إعلان IBM الأخير، يبدو أن الإجابة أقرب بكثير مما نعتقد. فـ حاسوب IBM الكمومي ليس مجرد مشروع بحثي، بل هو جسر بين ما نعرفه الآن وما يمكن أن نفعله بعد 2029.
ابقَ على اطلاع، لأن السنوات الأربع القادمة ستكون حاسمة في تحديد شكل التكنولوجيا لعقود قادمة.
Views: 0