في السنوات الأخيرة، سيطر الذكاء الاصطناعي على أحاديث العالم، وتصدّرت أدوات مثل ChatGPT المشهد التقني بلا منازع. لكن الحقيقة التي بدأت تظهر ببطء – وصدمت العديد من الشركات – هي أن الذكاء الاصطناعي وحده لم يعد كافيًا. وفقًا للمستقبلية الأمريكية إيمي ويب، فإن العالم مقبل على مرحلة جديدة تمامًا من التطور التكنولوجي تُعرف باسم “الذكاء الحي”.
هذه المرحلة لا تقوم على الذكاء الاصطناعي وحده، بل على تقاطع ثلاث تقنيات كبرى: الذكاء الاصطناعي التوليدي، التكنولوجيا الحيوية، وأجهزة الاستشعار الذكية. اندماج هذه القوى الثلاث، وفقًا لتحليل ويب، سيخلق دورة تكنولوجية فائقة قد تغيّر أسس الاقتصاد والمجتمع، كما فعل المحرك البخاري قبل قرون.
ما هو الذكاء الحي؟
الذكاء الحي (Living Intelligence) ليس مجرد تطوير للذكاء الاصطناعي، بل هو قفزة نوعية. تخيّل نظامًا تقنيًا يمكنه التعلم من السلوك البشري، والتفاعل مع البيئة البيولوجية المحيطة، ومعالجة البيانات التي تجمعها أجهزة الاستشعار المنتشرة في جسدك ومنزلك وسيارتك. هذا ليس خيالًا علميًا، بل هو المسار الذي يتجه نحوه الابتكار.
الذكاء الحي يعتمد على إنشاء أنظمة قادرة على التفكير والفعل، وليس فقط التنبؤ بالكلمات التالية في محادثة. بينما يتوقف الذكاء الاصطناعي الحالي عند فهم النصوص أو إنتاجها، فإن الذكاء الحي يستخدم بيانات حقيقية من العالم الفيزيائي والبيولوجي ليتفاعل ويتخذ قرارات. إنه “كائن تقني” يتغذى على الحواس والبيئة، ويتعلم باستمرار.
لماذا الذكاء الاصطناعي وحده لم يعد كافيًا؟
قصة مناجم الفحم في فرجينيا الغربية تلخص كل شيء. حين حاولت برامج تدريبية تحويل عمال المناجم العاطلين إلى مطوري ويب، تم تعليمهم لغة HTML فقط، في وقت كانت فيه الآلة قد بدأت تأخذ دور البشر فعلًا. لقد ركّزوا على المهارة الخطأ في الوقت الخطأ. تقول إيمي ويب: “هذا ما نخاطر بتكراره الآن إذا ركّزنا فقط على الذكاء الاصطناعي وتركنا ما هو قادم حقًا.”
الذكاء الحي هو الاتجاه الفعلي، وما لم نبدأ الاستعداد له من الآن، قد نجد أنفسنا في موقع الشركات التي استثمرت الملايين في حلول غير كافية.
الركائز الثلاث للذكاء الحي: عندما تتكامل الحواس والبيولوجيا والذكاء
1. الذكاء الاصطناعي التوليدي: بداية الحكاية فقط
قد يكون ChatGPT، وClaude، وGemini أدوات قوية اليوم، لكنها لا تمثّل سوى “النقطة صفر” في تطور الذكاء. في الذكاء الحي، لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على فهم النصوص أو توليد المحتوى، بل يتوسع ليشمل التفاعل مع أنواع متعددة من البيانات: صوت، صورة، موقع جغرافي، حالة صحية، إشارات حيوية.
مثال: عند استخدام مساعد ذكي داخل مستشفى، لن يكتفي بتحليل ملف المريض النصي، بل سيأخذ بعين الاعتبار درجة حرارته اللحظية، معدل ضربات قلبه، موقعه داخل المبنى، بل وحتى عواطفه، لتقديم توصية طبية دقيقة لحظيًا.
2. أجهزة الاستشعار الذكية: العيون والآذان التي تُمكّن الذكاء من الفعل
تخيل منزلك، سيارتك، هاتفك، وحتى ساعتك الذكية… جميعها مزوّدة بأجهزة استشعار ترصد كل ما يدور حولك. هذه الأجهزة تلتقط الحرارة، الرطوبة، الحركة، الصوت، وحتى التغيّرات في نبرة صوتك أو أنماط نومك.
الذكاء الحي لا يعمل بدون هذه “الحواس الرقمية”. فبدلًا من الاعتماد على بيانات نصية راكدة، يعتمد على بيانات بيئية وزمنية حيّة تُجمع من الواقع.
مثال: شركة Xylem طوّرت عدادات مياه ذكية تتنبأ بالتسريبات باستخدام الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار. كذلك، شركة Apple بدأت فعليًا في دمج المزيد من الحساسات الحيوية في Apple Watch لرصد مؤشرات القلب، الأوكسجين، والنشاط اليومي.
3. التكنولوجيا الحيوية: الجسر بين الإنسان والآلة
هنا نصل للركيزة الأكثر ثورية. البيوتكنولوجيا لم تعد تقتصر على الأدوية واللقاحات، بل بدأت تندمج مع الذكاء الاصطناعي لصنع “كائنات رقمية حيوية” تفكر وتتفاعل.
في عام 2021، طوّرت شركة Cortical Labs دماغًا عضويًا صغيرًا يُسمى DishBrain تمكّن من لعب لعبة Pong. الخلايا العصبية الحية استجابت للمؤثرات وتعلمت. وبدل أن تكون مجرد تجارب معملية، بدأت تظهر تطبيقات عملية لمثل هذه الأجهزة في المجالات الطبية، والتعليمية، وحتى الصناعية.
الذكاء الحي لا يتوقف عند معالجة البيانات فقط، بل يبدأ في “خلق الحياة الرقمية” باستخدام تكنولوجيا بيولوجية متقدمة، مثل البروتينات المصممة بواسطة الذكاء الاصطناعي، والروبوتات النانوية التي تسبح في دم الإنسان.
بهذا التكامل بين الذكاء، الحواس، والجسم، لا نكون أمام مجرّد تطور في البرمجة، بل أمام ولادة نمط حياة جديد كليًا، ستديره الآلات الذكية من حولنا – لكن هذه المرة بوعي بيئي وسلوكي.
من LLM إلى LAM إلى PLAM: عندما يتحوّل الذكاء إلى فعل
LLMs: نماذج اللغة الكبيرة… بداية ضرورية ولكن محدودة
نحن اليوم نتعامل مع ما يُعرف بـ LLMs أو “نماذج اللغة الكبيرة” – مثل ChatGPT وClaude وGemini. هذه النماذج مدرّبة على كميات هائلة من النصوص من الإنترنت، وتُجيد فهم السياق، كتابة المحتوى، الرد على الأسئلة، بل حتى كتابة الأكواد.
لكن وفقًا لإيمي ويب، هذه النماذج مجرد البداية. المشكلة أنها تُولّد محتوى فقط، لكنها لا تُنفّذ فعلًا حقيقيًا في العالم. وهنا يأتي دور الجيل التالي: LAMs.
LAMs: نماذج العمل الكبيرة – من التفكير إلى التنفيذ
LAM تعني “Large Action Model” أو “نموذج العمل الكبير”، وهي نماذج لا تكتفي بفهم النصوص، بل تُنفذ إجراءات حقيقية في العالم الرقمي، بل وربما الواقعي.
مثال:
بدل أن تطلب من ChatGPT “اكتب لي إيميل”، تطلب من LAM “أرسل العرض المناسب لهذا العميل بناءً على آخر تفاعل معه”، وستقوم النموذج بتصفح الملفات، تحليل البيانات، وفتح Gmail لتنفيذ المطلوب.
أمثلة حقيقية بدأت بالفعل:
ACT-1 من شركة Adept.ai
Claude AI من Anthropic
روبوتات متقدمة داخل أدوات مثل Notion وZapier وSlack، بدأت تمزج بين الـ LLMs والـ LAMs فعليًا.
PLAMs: الذكاء الحي الخاص بك شخصيًا
PLAMs أو “نماذج العمل الشخصية الكبيرة” هي الامتداد الطبيعي لـ LAMs، لكنها مُخصّصة لكل شخص على حدة. تعتمد على بياناتك اليومية وسلوكك الشخصي لتنفّذ المهام قبل أن تطلبها.
تخيل مساعد شخصي رقمي:
يعرف أنك تستيقظ عادة الساعة 7 صباحًا، فـ يحضّر لك قائمة مهامك تلقائيًا.
يعرف عادات أكلك ونومك، ويقترح مواعيد أكل وتدريب مثالية لجسمك.
يتواصل مع وكلاء آخرين (وكيل الشراء، وكيل التوصيل، وكيل التفاوض) لإنجاز مهام معقدة دون تدخل منك.
هذا هو مستقبل الذكاء الحي… ليس مجرد ذكاء يتحدث معك، بل ذكاء يعيش معك ويتصرف بالنيابة عنك.
تطبيقات الذكاء الحي: من المستشفيات إلى المنازل الذكية
الرعاية الصحية: الطبيب الذي لا ينام
في قطاع الصحة، يمكن للذكاء الحي أن يغير قواعد اللعبة بالكامل. باستخدام أجهزة استشعار دقيقة مزروعة في الجلد أو مزوّدة في ملابس المرضى، يستطيع النظام جمع بيانات لحظية عن الضغط، النبض، الجلوكوز، وحتى المؤشرات العصبية.
ثم تقوم نماذج LAMs بتحليل هذه البيانات لحظة بلحظة، وتحديد الحالات الخطرة قبل أن يدركها الطبيب أو المريض. تخيّل غرفة طوارئ تُدار بالذكاء الحي، تعرف من يحتاج التدخل العاجل، وتخصص الموارد تلقائيًا – دون انتظار ممرضة أو تقرير يدوي.
المنازل الذكية: من الراحة إلى التفاعل
الذكاء الحي يجعل منازلنا أكثر من مجرد أماكن ذكية. لن يحتاج المستخدم إلى إعطاء أوامر صوتية بعد الآن، لأن النظام سيعرف مسبقًا سلوكك ويتوقع احتياجاتك.
مثال:
إذا كنت تعمل من المنزل، وارتفعت درجة حرارتك فجأة، ستقوم أجهزة التكييف بضبط البيئة تلقائيًا، ويتم اقتراح فترة استراحة، وإغلاق الإشعارات لتجنب التوتر العصبي – وكل ذلك دون أن تنطق بكلمة.
تحديات الذكاء الحي: الخصوصية والأخلاق أولًا
مع كل هذا الكم من البيانات الحية والشخصية، يأتي السؤال الكبير: من يملك هذه البيانات؟
وماذا لو تم استخدامها في الإعلانات، أو التجسس، أو التمييز السعري في التسوّق؟
أجهزة LAMs وPLAMs تملك القدرة على فهم سلوكك بالكامل، مما يفتح أبوابًا واسعة للنقاش القانوني والأخلاقي.
وبما أن أجهزة الاستشعار ستكون موجودة داخل أجسامنا، فإن مسألة الأمن البيولوجي ستصبح أكثر أهمية من حماية كلمات المرور.
كيف تستعد الشركات والأفراد لهذا التحول؟
فهم الذكاء الحي ليس خيارًا، بل ضرورة.
استثمار مبكر في أجهزة استشعار وتكاملات حقيقية، وليس فقط LLMs.
إنشاء فرق تحليل بيانات حية في المؤسسات.
البدء بتجريب LAMs داخل العمليات اليومية: في الدعم الفني، الإدارة، التسويق.
الختام: الذكاء الذي يعيش معك… لا فقط يتحدث إليك
الذكاء الحي ليس مستقبلًا بعيدًا. نحن نعيش بداياته بالفعل، من خلال ساعات ذكية ترصد نومنا، إلى مساعدين رقميين يقتربون من اتخاذ قرارات حقيقية بالنيابة عنا. الفرق الوحيد هو أننا لا نزال نراه “أداة”، بينما هو يتحوّل إلى “كائن ذكي متفاعل”.
السباق بدأ… والسؤال الآن:
هل ستبني لنفسك مساعدًا حيًّا خاصًا؟ أم ستكون من الذين فاتهم التحوّل من الذكاء إلى الحياة؟
Views: 7